وطنية

الشرع أم السياسة؟… معركة الوصية البودشيشية تكشف الصراع بين المقدس والمدنس

محمد أبوخصيب

شكّل الخلاف الداخلي في الزاوية القادرية البودشيشية حول المشيخة بعد وفاة الشيخ مولاي جمال الدين القادري بودشيش تحديا استراتيجيا للمعمار الديني المغربي في ظل قيادة صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله. إن هذا الخلاف، الذي تجلى في التنافس بين الدكتور مولاي منير والأستاذ معاذ القادري بودشيش، لا يُقرأ فقط ضمن السياق الصوفي الداخلي، بل يطرح كإشكالية تمس جوهر الاستراتيجية المغربية في توظيف التصوف كأداة للقوة الناعمة ومواجهة التطرف. وتكمن أهمية هذا التطور في كونه يحدث في لحظة تاريخية حرجة تشهد صعود تيارات متطرفة تسعى لاستثمار أي خلل في النسيج الديني التقليدي لتمرير أجنداتها الهدامة.

تندرج أهمية استقرار الزاوية البودشيشية ضمن الاستراتيجية المغربية الشاملة لمواجهة الفكر المتطرف، خاصة ما يُعرف بـ”الفكر الياسيني الجديد” نسبة إلى عبد السلام ياسين ومشروعه الخلافي. فالتصوف المغربي، بقيادته الحكيمة وتوجهه الوسطي، يُعتبر الحاجز الطبيعي أمام انتشار الأيديولوجيات المتشددة التي تستهدف تقويض المؤسسة الدينية الرسمية وزعزعة استقرار النظام السياسي القائم على إمارة المؤمنين. إن تصدع هذا الحصن الروحي يفتح المجال أمام استغلال الفراغات الناتجة من قبل الجماعات المتطرفة التي تتربص بالمجتمع المغربي وتسعى لنشر فكرها الهدام بين الشباب والفئات المهمشة.

في مقابل هذه التهديدات، يبرز المشروع الأخلاقي لطه عبد الرحمن كبديل فكري يجمع بين العمق الفلسفي والتأصيل الصوفي، وهو ما يتجسد بوضوح في شخصية الدكتور مولاي منير القادري بودشيش الذي يعتبر أحد أبرز المدافعين عن هذا التوجه. إن هذا المشروع الطاهوي، المبني على التصوف العرفاني والأخلاق المجتمعية، يقدم رؤية حضارية متكاملة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتوفر إطارا نظريا وعمليا لمواجهة تحديات العصر دون الوقوع في فخ التطرف أو الانسلاخ عن الهوية الإسلامية.

وأكدت مجموعة من التقارير الدولية الأكاديمية، بما في ذلك دراسات معهد راند الأمريكي، على الدور الحيوي الذي يلعبه التصوف في إرساء مجتمع ديني وسطي ومتسامح. هذه القوة الناعمة التي يجسدها التصوف المغربي تعتبر من أهم أدوات الدبلوماسية الدينية التي تستخدمها المملكة في علاقاتها الخارجية، خاصة مع الدول الإفريقية والعالم الإسلامي عموماً. إن أي خلل في هذه المنظومة، سواء من خلال إضعاف القيادات الروحية المؤهلة أو زعزعة استقرار المؤسسات الصوفية العريقة، يُهدد هذا الرصيد الاستراتيجي ويقوض قدرة المغرب على لعب دور القوة الناعمة في المنطقة والعالم الإسلامي.

إن الجهات التي تدفع بإسقاط الدكتور مولاي منير القادري بودشيش، سواء عن قصد أو عن غير قصد، تساهم في تحطيم الصورة الرمزية والروحية للتصوف المغربي ودوره المحوري في الدبلوماسية الموازية. وقد أدى طرح هذا النقاش في مواقع التواصل الاجتماعي إلى تمييع القضايا الجوهرية وتسطيحها، نظرا لعدم وجود خلفية كافية عند العامة حول طبيعة التصوف وخصوصياته المعرفية والروحية. إن بعض المفاهيم الخاصة بالتصوف، عندما تتسلل إلى الفضاء العام دون سياقها المناسب، تفقد جوهرها وتصبح كالسمكة التي تموت إذا خرجت من البحر، مما يؤدي إلى تشويه صورة هذا التراث العريق وتقويض دوره الاجتماعي والروحي.

تتجاوز تداعيات هذا الخلاف الإطار الضيق للزاوية البودشيشية لتطال المشهد الديني المغربي برمته والاستراتيجية الوطنية لمكافحة التطرف تحت القيادة الحكيمة والمتبصرة لأمير المؤمنين والذي يعد الدكتور منير من الأدوات التي تخدم تحت مظلة صاحب الجلالة وتحت توجيهاته المتبصرة.

إن أي نتيجة مستقبلية لهذا الملف سيكون لها تأثير مباشر على مصداقية المؤسسة الدينية وقدرتها على الحفاظ على التوازن بين الأصالة والمعاصرة، بين احترام التقاليد الصوفية والاستجابة لمتطلبات العصر.

إن التاريخ لن يرحم أي طرف يساهم في إضعاف المنظومة الروحية والفكرية التي تشكل عمق الهوية المغربية وحصنها ضد التطرف. فالمسؤولية الحضارية تقتضي من جميع الأطراف إعلاء المصلحة العليا للوطن والأمة فوق أي اعتبار شخصي أو فئوي. إن الحفاظ على وحدة الصف الصوفي وقوة تماسكه ليس فقط ضرورة دينية، بل ضرورة وطنية واستراتيجية في مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية. وفي هذا السياق، يبقى دور الحكمة الملكية محوريا في إيجاد الحلول المناسبة التي تضمن استمرارية هذا التراث العريق وفعاليته في خدمة الأهداف النبيلة للمملكة المغربية الضاربة في عمق التاريخ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى