وطنية

الملكية المغربية بين الواقع التاريخي والتحامل الإعلامي: قراءة نقدية في سلسلة لوموند

محمد أبوخصيب

تثير سلسلة المقالات التي نشرتها جريدة “لوموند” الفرنسية مؤخرا حول الملكية المغربية تساؤلات جوهرية حول منهجية التناول الإعلامي للمؤسسات الدستورية في البلدان العربية والإفريقية. فبينما تدعي هذه المواد الاعلامية تقديم قراءة موضوعية لواقع المملكة المغربية، تكشف المراجعة العقلانية المتأنية عن خطاب محمّل بالمسبقات الاستشراقية والتحيزات الإيديولوجية التي تنم عن سوء فهم عميق لطبيعة النظام السياسي المغربي وخصوصياته الحضارية.

ووقعت سلسلة مقالات لوموند في فخ المقاربة الاختزالية التي تحاول إسقاط النماذج السياسية الغربية على واقع مغربي متجذر في تراث حضاري وسياسي مختلف جذريا. فالجريدة الفرنسية، وهي تسعى لتحليل الوضع السياسي المغربي، تتجاهل عمدا السياق التاريخي والثقافي الذي يحكم علاقة المغاربة بمؤسستهم الملكية.

إن استخدام عبارات من قبيل “أجواء نهاية العهد” و”الإصلاحات غير المكتملة” يكشف عن نزعة استشراقية ترى في الأنظمة السياسية العربية مجرد نسخ ناقصة من النموذج الديمقراطي الليبرالي، متناسية أن لكل مجتمع خصوصياته التاريخية والثقافية التي تشكل نظامه السياسي.

وتتميز الملكية المغربية عن نظيراتها في العالم بكونها مؤسسة تجمع بين الشرعية التاريخية والدينية في آن واحد. فالعرش العلوي المجيد، الذي يحكم المغرب منذ القرن السابع عشر، يستمد شرعيته من انتسابه الشريف إلى آل البيت الكرام، مما يجعل من المؤسسة الملكية رمزا دينيا وروحيا يتجاوز الأبعاد السياسية المحضة.

هذا البعد الروحي للملكية، الذي تجسده إمارة المؤمنين، ليس مجرد لقب بروتوكولي، بل هو منصب ديني واجتماعي عميق الجذور في الوعي الجمعي المغربي. فأمير المؤمنين هو الضامن للوحدة المذهبية والروحية للأمة، والحافظ لاستقرار الممارسة الدينية وفق التقاليد المالكية الأشعرية الصوفية التي تشكل الهوية الدينية المغربية.

لا يمكن فهم الدور المحوري للملكية المغربية دون استحضار التنوع الإثني واللغوي والثقافي الذي يميز المجتمع المغربي. فالمملكة، بامتدادها الجغرافي الواسع وتعدد مكوناتها الثقافية (العربية والأمازيغية والحسانية والأندلسية), تجد في المؤسسة الملكية عامل توحيد وانسجام يتجاوز الخصوصيات الجهوية والقبلية.

إن التاريخ المغربي زاخر بالأمثلة التي تؤكد هذا الدور التوحيدي للملكية، من مقاومة الاستعمار إلى بناء الدولة الحديثة، مرورا بالتصدي للتحديات الانفصالية والحفاظ على الوحدة الترابية. وما الدعم الشعبي الواسع الذي تحظى به المؤسسة الملكية، إلا انعكاس لهذا الدور المحوري في الوجدان المغربي.

وتكشف قراءة متأنية لسلسلة مقالات لوموند عن تحيز واضح يتجلى في اعتماد مصادر أحادية الرؤية وتجاهل الأصوات المؤسسية والأكاديمية المغربية التي تقدم قراءة مختلفة للواقع السياسي المغربي. كما تتبنى الجريدة نبرة تنبؤية تفتقر إلى الأسس العلمية الموضوعية، معتمدة على تحليلات انطباعية تفتقر إلى المنهجية الأكاديمية الرصينة.

إن هذا التناول يذكرنا بالأدبيات الاستشراقية التقليدية التي كانت تنظر إلى العالم الإسلامي من منظور الآخر الغربي، محاولة فهم ديناميات مجتمعية معقدة من خلال قوالب نظرية لا تراعي الخصوصيات الحضارية والثقافية للمجتمعات المدروسة.

لا يمكن تجاهل حقيقة أن المقاربة الصحفية للوموند تتسم بالانتقائية في عرض الوقائع، حيث تركز على جوانب معينة وتتجاهل عمدا الإنجازات المهمة التي حققها المغرب في العقدين الأخيرين على مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والإصلاحات الدستورية والسياسية، والمكانة الدولية المتميزة التي بات يحتلها المغرب في محيطيه المغاربي والإفريقي والعالمي.

إن إغفال هذه الحقائق الموضوعية يطرح تساؤلات جدية حول مدى مهنية التناول الصحفي والأهداف الحقيقية وراء هذه السلسلة من المقالات.

وتتميز المؤسسة الملكية بقدرتها على التجديد والتطوير مع الحفاظ على الثوابت الأساسية. فالإصلاحات الدستورية والسياسية التي شهدها المغرب، والتي توجت بدستور 2011، تعكس هذه القدرة على التكيف مع المتطلبات العصرية دون التنازل عن الهوية الحضارية والثقافية للمملكة.

إن هذا النهج في الإصلاح التدريجي والمتوازن، الذي يأخذ في الاعتبار خصوصيات المجتمع المغربي وتطلعاته المشروعة، يختلف جذريا عن النماذج الثورية أو التغييرية الجذرية التي شهدتها بلدان أخرى في المنطقة، والتي أثبتت فشلها في تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة.

لا يمكن فهم موقع الملكية المغربية دون استحضار الدور المتنامي الذي تلعبه المملكة على الصعيد الإقليمي والدولي. فالمغرب، بقيادة جلالة الملك محمد السادس نصره الله، بات يحتل موقعا مركزيا في الجهود الرامية إلى تحقيق الاستقرار في منطقة الساحل والصحراء، وفي مبادرات التعاون جنوب-جنوب، وفي الوساطة في النزاعات الإقليمية.

هذا الدور النشط والبناء في المحافل الدولية يعكس النضج السياسي للمؤسسة الملكية وقدرتها على قراءة التحولات الجيوسياسية العالمية والتفاعل معها بإيجابية وفعالية.

إن النقد المتأسس على المنطق لسلسلة مقالات لوموند حول الملكية المغربية يطرح تساؤلات أعمق حول دور الإعلام الغربي في تشكيل الرأي العام حول البلدان العربية والإفريقية. فبينما نقدر أهمية النقد البناء والتحليل الموضوعي، نرفض المقاربات المتحيزة والمحملة بالمسبقات الإيديولوجية التي تسعى إلى تشويه صورة مؤسسات راسخة وتحظى بإجماع شعبي واسع.

إن الملكية المغربية، بجذورها التاريخية العميقة ودورها المحوري في ضمان الوحدة الوطنية والاستقرار السياسي، تستحق تناولا إعلاميا يراعي خصوصياتها الحضارية والثقافية، ويقدر إنجازاتها الملموسة في مسيرة البناء والتنمية.

وفي الختام، ندعو الإعلام الدولي إلى اعتماد مقاربة أكثر موضوعية ومسؤولية في تناول الشؤون المغربية، مقاربة تقوم على الحقائق والمعطيات الميدانية بدلا من التحليلات الانطباعية والأحكام المسبقة. فالمغرب، بتاريخه العريق ومؤسساته الراسخة، يستحق تغطية إعلامية ترقى إلى مستوى حضارته وإنجازاته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى