Uncategorized

الوصية الشرعية: الحق الثابت لا يسقط بالتنازع

محمد أبوخصيب

تشهد الطريقة القادرية البودشيشية، إحدى أعرق الطرق الصوفية في المغرب، أزمة خلافة حقيقية عقب انتقال شيخها سيدي جمال الدين القادري بودشيش إلى الرفيق الأعلى في غشت الماضي. وتتجلى هذه الأزمة في تضارب المواقف والتصريحات حول مسألة الخلافة بين ولديه سيدي منير وسيدي معاذ، مما يطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة الإرث الروحي وآليات انتقال المشيخة في الطرق الصوفية المغربية.

إن هذه الأزمة لا تقتصر على بعدها الداخلي فحسب، بل تمتد لتشمل إشكاليات أعمق تتعلق بمفهوم الوصية الشرعية والسند الرباني، وهي المفاهيم التي حظيت بعناية خاصة في التوجيهات الملكية السامية، كما ورد في رسالة صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله للمجلس العلمي الأعلى.

وتكتسب هذه الأزمة أهمية خاصة في ضوء التوجيهات الملكية السامية التي أكدت على الدور الحضاري للطرق الصوفية في المغرب. فقد جاء في الرسالة الملكية: “التذكير بما برز فيه المغاربة من العناية بثانية أمانات الرسول الأعظم وهي التزكية، وذلك من خلال ما نبت في أرض المغرب عبر العصور من مؤسسات التربية الروحية المسماة بطرق التصوف، ومعلوم أن الجوهر الذي تقوم عليه تربيتها هو محبة الرسول الذي تنتهي إليه أسانيد هذه الطرق في الدخول على الله من باب الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في إخلاص العبودية لله”.

هذا النص الملكي السامي يضع إطارا مرجعيا واضحا لفهم طبيعة الطرق الصوفية وجوهرها الروحي، مؤكدا على مبدأين أساسيين:

أولا: أن هذه الطرق هي مؤسسات تربوية روحية نبتت في التربة المغربية عبر القرون، وليست مجرد تجمعات عابرة أو منظمات حديثة.

ثانيا: أن جوهر هذه التربية يقوم على السند الروحي المتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما يعرف في الاصطلاح الصوفي بـ”السلسلة الذهبية” أو “السند الرباني”.

إن مفهوم الوصية في التقليد الصوفي المغربي يتجاوز البعد القانوني الضيق ليشمل البعد الروحي والسند الرباني. فالشيخ المؤسس أو الخليفة لا ينقل فقط مهام إدارية أو اجتماعية، بل ينقل أمانة روحية عظيمة تتمثل في السر الرباني والبركة المحمدية التي توارثتها الأجيال.

وهذا ما يؤكده النص الملكي بقوله إن “أسانيد هذه الطرق” تنتهي إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم. فالسند هنا ليس مجرد سلسلة تاريخية، بل هو حقيقة روحية حية تنتقل من قلب إلى قلب، ومن روح إلى روح، وفق ضوابط شرعية وآداب روحية دقيقة.

وفي هذا السياق، تكتسب الوصية الشرعية قدسيتها من كونها تمثل:

  1. الاختيار الرباني: حيث يلهم الشيخ إلى اختيار خليفته بإرشاد إلهي وليس بمعايير دنيوية.
  2. النقل المباشر للسر: وهو ما لا يمكن أن يحدث إلا بين الشيخ الموصي والخليفة الموصى إليه.
  3. الشرعية الربانية: التي تستمد قوتها من الله سبحانه وتعالى وليس من الاتفاقات البشرية.

وفي ضوء هذا الفهم العميق لطبيعة الخلافة الصوفية، يمكن قراءة الأزمة الحالية في الطريقة القادرية البودشيشية قراءة موضوعية تقوم على المبادئ التالية:

من أخطر الظواهر التي رافقت هذه الأزمة محاولة بعض الأطراف استغلال صورة جلالة الملك وسلطته المعنوية لتبرير مواقف معينة أو فرض أمور على المريدين. هذا الاستغلال يتنافى مع طبيعة المؤسسة الملكية السامية التي تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف وتحترم استقلالية الطرق الصوفية في تدبير شؤونها الداخلية.

إن جلالة الملك، بصفته أمير المؤمنين، يحافظ على دوره كراع للحرمات الدينية وحام للتقاليد الروحية، وليس طرفا في النزاعات الداخلية. وأي ادعاء بوجود تدخل ملكي مباشر في اختيار خليفة معين يتطلب وثائق رسمية واضحة وليس مجرد إشاعات أو تفسيرات شخصية.

إذا كان هناك ظهير ملكي أو قرار رسمي يتعلق بالخلافة، فإن مبادئ الشفافية والوضوح تقتضي نشره علنا وتوثيقه بالطرق الرسمية المعتادة. أما الاكتفاء بالحديث عن وجود مثل هذه الوثائق دون إظهارها فهو منهج لا يتماشى مع قيم الصدق والأمانة التي تقوم عليها الطرق الصوفية.

من المؤسف أن نشهد في هذه الأزمة كيف يتم تضخيم أمور بسيطة وغير صحيحة وتعميمها على نطاق واسع، بينما تتجاهل أو تقلل من أهمية الوثائق والأدلة الشرعية الثابتة. هذا المنهج يضر بالحقيقة ويزيد من التشويش على المريدين والمتابعين.

وفي ضوء التوجيهات الملكية السامية التي أكدت على أهمية الطرق الصوفية كـ”مؤسسات التربية الروحية”، يصبح الدفاع عن مبدأ الوصية الشرعية والسند الرباني ضرورة حضارية ودينية. فهذه المبادئ ليست مجرد تقاليد قديمة، بل هي جوهر الشرعية الروحية التي تميز الطرق الصوفية الأصيلة عن غيرها.

إن احترام الوصية الشرعية يعني:

  1. الحفاظ على السلسلة الروحية: التي تربط الطريقة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
  2. صيانة الأمانة الربانية: التي حملها الأسلاف وتناقلتها الأجيال.
  3. ضمان استمرارية التربية الصحيحة: وفق المنهج النبوي الشريف.

إن الأزمة التي تعيشها الطريقة القادرية البودشيشية اليوم هي اختبار حقيقي لقدرة الطرق الصوفية المغربية على التعامل مع التحديات الحديثة مع الحفاظ على أصالتها وقيمها الروحية. والحل لا يكمن في التجديد المطلق أو التقليد الأعمى، بل في الجمع الحكيم بين احترام التقاليد الشرعية والتعامل الواقعي مع متطلبات العصر.

إن التوجيهات الملكية السامية التي أكدت على أن جوهر التربية الصوفية هو “محبة الرسول” وأن أسانيدها تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم، تقدم إطارا مرجعيا واضحا يمكن أن يساهم في حل هذه الأزمة. فالمحبة النبوية تقتضي الصدق والعدل والرحمة، والسند النبوي يتطلب الأمانة والوفاء والوضوح.

وفي النهاية، فإن الطريق إلى الله واحد، والهدف من التصوف واحد، وهو تحقيق العبودية الخالصة لله سبحانه وتعالى. وهذا الهدف النبيل لا يمكن أن يتحقق في أجواء من الصراع والفتنة، بل يحتاج إلى بيئة روحية صافية قوامها الصدق والمحبة والإخلاص.

فلعل هذه الأزمة تكون فرصة للتطهر والتزكي، ولعل المحنة تتحول إلى منحة، والشدة إلى رحمة، والفرقة إلى وحدة. والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى