آراء

ياسين العمري وديداكتيك الموعظة

عبد الله المستعين

ونحن أساتذة متدربون بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالدارالبيضاء، الذي يقع في قلب العاصمة الاقتصادية، لا زلت أتذكر في تلك الصبيحة ذات الشمس الدافئة وبالقاعة رقم 20 تحديدا التي لها إطلالة بانورامية على الفضاء الفسيح للمركز، أن أستاذنا السعيد بلعالية، الرجل الذي يذيب أي جليد للتوتر والقلق في ذهنك مهما تصلب، وضع بين أيدينا ونحن بصدد الحديث عن إواليات النقل الديداكتيكي، نصا لا يمكن وصفه إلا بالمعقد، وهو مقطع من الكتابات المنطقية لابن سينا ضمن متن “الشفاء”، مطالبا إيانا بالاطلاع عليه وتحديد أهم أفكاره بغرض صياغة وضعية تعليمية ضمن برنامج مادة الفلسفة.

وأنا أحاول تفكيك شيفرات النص التي هي أعقد من رسالة استخباراتية مشفرة، ظل سؤال يراود ذهني، ومما لا شك فيه أنه كان حاضرا في أذهان كل أساتذة الفوج: كيف يمكن نقل نص وازن من حجم نص ابن سينا ديداكتيكيا لتلاميذ الجذع المشترك؟، ظل هذا السؤال معلقا إلى غاية ملاقاة أستاذتنا أمينة جلال، التي وضعتنا في مواجهة حارقة أشبه بمواجهة فريق شباب المسيرة بفريق المانشستر سيتي ضمن مباراة مصيرية، إذ كان اللقاء بالمدفعية الثقيلة لفلسفة القرن العشرين، وهو مارتن هايدغر وحديثه عن مفهوم الحقيقة، في صلتها بمفاهيم الكائن والتجلي والأنطولوجيا، لكن المثير، هو العمل السيمفوني ل”مادام جلال” على تبسيط المتن الهايدغري، الذي يواجهه أغلب طلاب وباحثي الفلسفة بالاستسلام، والأهم أن مع العدة الديداكتيكية وتشرب إتقاناتها، يغدو كل معقد بسيطا.

فما منزلة كل هذا الحكي في صلته بعتبة العنوان؟

منذ مدة، وككل فضولي بالإيجاب، أتابع وأرصد محتويات وخطاب رجل، له من جهة التوافق والاجماع ما يقابل من جهة الرفض والإدانة، رغم تفاوت المقادير وانتصارها للمعطى الأول، مع احتلاله لكل المنصات والمواقع، في لحظة مجتمعية من سماتها ذلك الظمئ لأسئلة القيم والهوية، وهو الداعية ياسين العمري، بوجهه المتمايل بين خصوبة الشباب وجفاف النضج المكسو بلحية مفرطة في الانسدال، والأهم ليس طبعا الشخص في ذاته، بقدر ما أن يثيرني تلك الطريقة الديداكتيكية في جعل المتن الشرعي متصلا بتفسير وتأويل اليومي من حياة الناس، وذلك ضمن رهان الموعظة، أي وعظ الناس وإرشادهم فيما يخصهم من حياتهم الدينية والدنيوية، طبعا من جهة تعاليم الدين الإسلامي الحنيف.

نحن جيل التسعينات، فتحنا أعيننا مباشرة مع ثورة الاعلام والاتصال ودخول عصر “تعميم التلفزيون” ولما هذه الثورة من أثر الفراشة على العديد من الحقول، من ضمنها الحقل الديني، الذي عرف نقلة على مستوى مجال ممارسة الوعظ والإرشاد من المواعظ المتصلة بمشاريع الإسلام السياسي والحركي، إلى ظهور جيل “الداعية ستار” ضمن موجة الفضائيات الدينية، إلا أن هذا الجيل نفسه ظل متراوحا بين مرجعيات الإسلام الحركي وبين الخطاب الشرعي الصارم ذو الطبيعة العالمة.

الثورة الرقمية طبعا ستخضع في تطورها إلى نقلات مطبوعة بالسيولة والتدفق العارم، وصولا بنا إلى لحظة شبكات التواصل الاجتماعي التي نحن أمامها اليوم، وضمن نفس السيرورة سيعرف خطاب الواعظين تطورا وتبسيطا من تجلياته التبسيط والانتقال به من حدود المجرد إلى ربطه بالمحسوس والمعاش، على شاكلة “النقل الديداكتيكي”، وهنا يحضر خطاب الواعظ ياسين العمري، الذي قد أختلف معه في بعض الصور التأويلية للمضامين الشرعية ونظرها للواقع، لكن في الأغلب، أبقى من متابعيه ما دمت أجد جزءا حيويا من ذاتي في خطابه، وهو الجزء الديني الايماني، لكن الأهم هو كيفية تبسيط الخطاب من لدنه واخراجه من حدود “خاصة الخاصة” لكي يصير في متناول “العامة”، وذلك دون الرجوع لأسس علوم الفقه والحديث والتفسير لفهمه، وإن كان أن في هذه العودة ضرورة لمن أراد أن يؤسس ايمانه على قاعدة صحيحة، والأهم هو ما يقدم من مساعدة وتيسير بغرض استدماج “كفايات التدين”، وذلك لمن أراد أن يعيش حياته على أساس ديني سليم، في زمن أزمة القيم وتلاشي الهويات الصلبة.

أقول قولي هذا والله أعلم…

زر الذهاب إلى الأعلى